هل تتخلى الدولة عن دورها الأبوي في الدعم؟
سليمان من على منبر جامعة دمشق: الدولة بحاجة اقتصاد السوق المنظم أو السوق الاجتماعي لمرحلة ما بعد الحرب
علي محمود سليمان
بات من الضروري إعادة تقييم الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، لجهة عصرنة وتحديث هذا الدور، في ظل تعثر الأداء الحكومي في الكثير من السياسات العامة والسياسات المالية والنقدية، دون الغرق في تفاصيل السياسات الجزئية والفنية على حساب السياسات الكلية والاقتصاد الكلي، وفق رأي الأستاذ في كلية الاقتصاد الدكتور عدنان سليمان.
موضحاً بأن إعادة هندسة وتقييم هذا الدور لجهة المزيد من الكفاءة والفاعلية يساهم في استمرار خيارات الدولة الوطنية تنموياً.
وخلال ورشة عمل أقيمت أمس في جامعة دمشق بحضور وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور بسام ابراهيم وأدارها عميد كلية الاقتصاد الدكتور حسين دحدوح بعنوان «الدور الأبوي للدولة»، أشار الدكتور عدنان سليمان خلال ورقة عمل تتضمن قراءة تحليلية عن التجربة السورية، إلى ضرورات إعادة تحديث دور الدولة.
مسألة الدعم الاجتماعي
طارحاً كمثال كيفية النظر إلى معالجة مسألة الدعم الاجتماعي (التي تفتقر إلى وضوح الرؤية وأهداف وأدوات المعالجة)، متسائلاً في هذا الطرح إن كان المقصود بإعادة النظر بموضوع الدعم الاجتماعي هو التخفيف من عجز الموازنة أم تقليص دور الدولة اجتماعياً؟.
موضحاً بأنه على المستوى التاريخي وفي أوقات الحروب والأزمات تأتي إعادة هندسة دور الدولة لتوسيع نطاق سياسة الدعم الاجتماعي والإنتاجي لا لتقليصها، والتوسع بها لتشمل تضمين شبكة الأمان والحماية الاجتماعية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود، ودعم القطاع الإنتاجي الزراعي والصناعي من خلال دعم مدخلات ومستلزمات العملية الإنتاجية وتخفيض أسعار حوامل الطاقة لما ينعكس ذلك على دعم العملية الإنتاجية وزيادة الاستثمار المحلي المنتج وعودة فرص النمو الاقتصادي.
بينما تكمن الضرورة التاريخية اليوم في أن أولوية استعادة النمو الاقتصادي عن طريق جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية وتنمية الاستثمار المحلي وتحديث البيئة التشريعية والقانونية.
وبالرغم أن كلفة الدعم لدولة نامية مثل سورية، كبيرة ومعقدة لكن التخلي عن وظائف ومهام تنموية ذات ابعاد اجتماعية سيحرم الدولة من قدرتها على ضبط توازنات المجتمع واتجاهات تطوره، لجهة تمزق المجتمع وتحوله طبقيا (ما تعانيه الطبقة الوسطى من تفتت وانحدار مجتمعي) واستقطاب مجتمعي لصالح الأغنياء، واتجاهات لهيمنة مشروع السوق الليبرالية.
مضيفاً أن التجربة التاريخية تفيد بأنن كلفة التنمية أقل بكثير من كلفة التخلص من الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي، وبالتالي إن العائد الاجتماعي والتنموي من الانفاق الحكومي ودعم الخدمات العامة يحقق منافع أكبر بكثير من عائد الانفاق على محاربة الفقر وتحلل النسيج المجتمعي.
ضرورة التقييم السنوي
ولفت سليمان إلى أنه إذا كانت سياسة الدعم تخضع اليوم لإعادة تقييم شاملة، فإنه على الدولة الاستمرار بتقديم إعانات مالية لدعم الإنتاج الصناعي والزراعي، لأن رفع سعر المازوت والفيول بشكل كبير سيؤثر على الكلف التشغيلية للإنتاج الصناعي والزراعي والنقل، بما ينعكس ارتفاعاً في أسعار هذه المنتجات، وينعكس على استمرار العملية الإنتاجية.
حيث تدل التجربة السورية إلى أن زيادة حجم الانفاق الحكومي الاستثماري في الموازنة العامة للدولة (يلاحظ أن نسبة الانفاق الاستثماري تراوحت تاريخياً حول نسبة 40 إلى 45% من الموازنة)، هي التي اثمرت عن إقامة العديد من المشاريع التنموية والبنى التحتية لزيادة حجم الإنتاج وتسريع الدورة الاقتصادية.
بينما تراجعت هذه النسبة خلال السنوات الأخيرة إلى 17% وسطياً، الأمر الذي لا يدعم منطق الخروج من الأثار المدمرة لبنى الإنتاج بعد الحرب، والذي يتطلب حجماً للإنفاق الحكومي أكبر بكثير عبر سياسة اقتصادية توسعية، ما يترتب عليها المزيد من العجز، ولكنها ستعيد دورة الاقتصاد والإنتاج وتحفز النمو الاقتصادي مما ينعكس في الخروج من دائرة الركود الاقتصادي، لتحقيق فرص إنعاش الاقتصاد وتحفيز النمو.
وبيّن الدكتور عدنان سليمان أن تقييم جودة وكفاءة دور الدولة تفترض أن يخضع هذا الدور لإعادة تقييم سنوي، وذلك لتحديد فيما إذا كانت هذه الإدارة الحكومية قادرة على تنمية الاقتصاد والمجتمع والارتقاء بهما.
حيث يلاحظ أن تراجع معدلات الاستثمار في العقود الماضية، كان سبباً مباشراً وراء انخفاض معدلات النمو ومستويات المعيشة وعدم القدرة على توليد فرص عمل، الأمر الذي يستخلص من عملية إعادة التقييم، أن زيادة معلات الاستثمار الحكومي، كفيل بتوسيع فرص النمو والإنتاج والتشغيل.
اقتصاد السوق المنظم
ورأى الأستاذ في كلية الاقتصاد بدمشق أن الخيارات التنموية المستقبلية يمكن أن تتمثل في نموذج اقتصاد السوق المنظّم أو الموجّه تنموياً، كأحد الخيارات التنموية للمشروع التنموي الذي يمكن أن تضطلع الدولة بتبنيه، بحكم إعادة رسم وصياغة مستقبل الاقتصاد السوري لما بعد الحرب.
حيث أن النموذج الاقتصادي القائم والذي استمر لأكثر من ثلاثين عاماً (العمر الافتراضي للنموذج الاقتصادي يدور وسطياً حول 25 عاماً) لم يعد يملك مقومات الاستمرارية لإعادة بناء ما دمرته الحرب والنهوض الاقتصادي والمجتمعي، لأن اقتصاد ما بعد الحرب يحتاج إلى حشد كل إمكانات الدولة والمجتمع والرأسمال الخاص لإعادة تسريع دوران العملية الاقتصادية، وتحقيق زيادة معدلات نمو في القطاعات الاقتصادية المحفزة للنمو مثل الزراعة والصناعة، مع التأكيد بأن كلّ توجه اقتصادي يحتاج إلى فريق اقتصادي يؤمن بهذا التوجه وقادر على تنفيذ هذه السياسات.
وباعتبار أن مسارات التنمية تستهدف مرحلة اقتصاد ما بعد الحرب، الأمر الذي يتطلب المزيد من حضور الدولة في الاقتصاد والمجتمع بما يضمن توزيعاً عادلاً لفرص التنمية مجتمعياً وإقليماً وبما ينسجم مع إمكانات كل إقليم من الموارد والموقع والخصائص الديمغرافية والتنموية (الأقاليم التنموية: حيث يمكن دمج كل محافظتين متقاربتين جغرافياً في الخطط التنموية لتشابه الخصائص التنموية)
والأقاليم التنموية مثلا (دمشق وريف دمشق – اللاذقية وطرطوس – حمص وحماة) وإعطاء سلطات الأقاليم المحلية مهمة تنفيذ الخطط وتوزيع ثمار التنمية إقليماُ، بما يكفل نهضة وتقدم المجتمع والاقتصاد المحلي.
السوق الاجتماعي
أما الخيار الثاني فهو اقتصاد السوق الاجتماعي بحسب الدكتور عدنان سليمان، كونه يؤمن للدولة شرعية وكفاءة وظيفتها الاجتماعية في جانب رعاية التوزيع والدعم الاجتماعي، التي تأتي انسجاماً مع مبدأ العدالة الاجتماعية والجانب الاقتصادي في مجال الانفاق والإنتاج، تحقيقاً لضرورة الكفاءة في استخدام وتوزيع الموارد.
وبذلك تستطيع الدولة الاجتماعية التدخلية هنا أن تضمن آليات التوزيع الاجتماعي للثروة والدخل والموارد في السوق، إذ يكتسب التوزيع هنا بعداً اقتصادياً في الجانب التدخلي لضبط توازنات السوق، وبعداً اجتماعياً آخر منعاً للإخلال بالتماسك الاجتماعي والافقار وتهميش الطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة.
ذلك أن نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي يشدد على أن تمنع الدولة الاحتكار، لأنه يحدّ من المنافسة واتباع سياسة اجتماعية تتلاءم مع متطلبات السوق بينما تعدّ سياسة توزيع الدخول والثروات، أحد العناصر المهمة في السياسة الاقتصادية.
كما يتميز اقتصاد السوق الاجتماعي بأنه نظام ديناميكي، يأخذ من الرأسمالية أفضل ما فيها وهو المنافسة، ومن الاشتراكية الديمقراطية أهم ما فيها وهو العدالة الاجتماعية، ليشكل نظاماً تاريخياً مختلفاً، كمل لو أنه طريق ثالث لا رأسمالي لوحده ولا اشتراكي لوحده، بل الدمج بين أهم مقومات استمرارية هذين النظامين.
من هنا فاقتصاد السوق الاجتماعي ينفرد تاريخياً (على قاعدة التجربة التاريخية الناجحة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً في بناء المانيا بعد الحرب) بالدمج بين المشاركة القيمة والاخلاقية للمجتمع، وتأطير نظام التفاعل الإيجابي بين الأفراد والحكومة، على قاعدة تبادل المصالح والحوار والتسامح وقيم العقلانية والديموقراطية الوطنية.