لماذا تغيبُ الأرقامُ والتحليلات ويحضر التنظيرُ والمدرسيّة؟!
سنسيريا
التخطيط كلمة.. فعل.. هيئة… كلها مفردات لعملٍ واحد يتطّلب أن تملك برامجه إمكانات الأداء المختلف الذي يعنيه معترك حربٍ مدمّرة، قضت على الموارد، وكشفت الثغرات، وعرّت أداء الكثير من المؤسسات.
من حقنا أن نتساءل.. هل اختلف أسلوبُ التخطيط بعد عدة سنواتٍ من الحرب واختلاف الأرقام والمعطيات؟
للأسف… لم يطرأ أي تحوّل، وما زالت الورقيات تتكدس معلنةً وأد الطموح وقتل الرؤى، لماذا لا يكون للظروف وراهنيتها الدور الأكبر المؤثر في الرؤى التخطيطية والاعتماد على الأرقام وتحليلاتها؟ أين نحن من أثر الإحصاءات الحيوية في وضع الخطط والحلول؟
غيابُ التواصل
وجّهنا للهيئة أسئلةً تتعلق بالتخطيط والحاجة الكبيرة لتطويره، ولماذا تتم إزاحة الخطط في ظل الظرف الكارثي، ووجوب اختلاف المنهجية واعتماد أثر الحرب ونتائجها في رسم خطط جديدة.
تواصلنا مع المكتب الإعلامي في الهيئة فأخبرنا أن الإجابات جاهزة، ولكنها تحتاج موافقة رئيس الهيئة، ومضت شهور(لا حس ولا خبر) من الهيئة رغم المتابعة والاتصالات.. تغيّر رئيس الهيئة ولم نحصل على الإجابات رغم الإلحاح ؟!!
والأكثر أسفاً أن إدارات التخطيط في المحافظات ترفض المشاركة في إبداء الرأي بحجة أنهم مرتبطون بالهيئة! أما بشأن الرؤى والذهنية فمن يهتم؟ كيف تتم المناقلات من اعتمادات مشروعات استراتيجية ومطلوبة ومؤثرة خدمياً؟
وجعُ الخبرات
أجمعت آراء مهتمين بالتخطيط على أن ثمّة خللاً وألماً وحاجةً إلى الاختلاف في بنية التخطيط وأدواته.
الدكتورة ريدة ديب- عميدة المعهد العالي للتخطيط الإقليمي أجابت بشأن ذهنية التخطيط والرؤى التي تتطلب اختلافاً في ظل ظروف أزمة حرب تجاوزت عقداً من السنوات، فأوضحت أن سورية اعتمدت على الخطط الخمسية حتى 2010، واعتمدت الخطط القطاعية حتى الخطة الخمسية التاسعة، وانتقلت الحكومة إلى خطة أكثر بحثاً عن التنمية المتوازنة في الخطة الخمسية العاشرة، لكن مع الأسف غابت عنها الرؤية الشمولية المكانية للخريطة السورية، ما قد يخلق خوفاً خلال العشرين عاماً القادمة من خطر فقدان الموارد المائية والأراضي الزراعية، إضافة إلى فقدان خصوصية الريف وهويته، والاتجاه المتنامي نحو التحضّر والعمران.
وقد تكشفت أهمية التخطيط الإقليمي منذ 2001، وبدت خطة العمل أكثر وضوحاً وشمولية، انطلاقاً من خطاب القسم للسيد الرئيس بشار الأسد عام 2007 وتم إحداث هيئة التخطيط الإقليمي، وصدر قانون التخطيط الإقليمي رقم 26 لعام 2010 الذي حدد المهام المنوطة بالهيئة، أهمها وضع الإطار الإقليمي للتخطيط في سورية مدة خمسة عشر عاماً، وكانت سورية تتوجه نحو تخطيط مختلف، لكن الحرب أوقفت كل شيء.
أثرُ منعكسات الحرب
أكدت ديب توقف المشروعات التنموية في سنوات الحرب، إلّا من بعض محاولات ربط الفعاليات الاقتصادية والاستثمارية من خلال مشروعات نوعية وتعزيز الثقة والاستمرارية، لكن الواقع استدعى الانتقال من حالة التخطيط الاستراتيجي إلى الحالة الإسعافية الطارئة لتأمين مستلزمات الحياة، و شكّل إحداث معهد التخطيط الإقليمي وإجماع الخبراء الذين قدموا الإطار الوطني المنجز عام 2013 بالتنسيق مع هيئة التخطيط الإقليمي نقطةَ انطلاق من جديد لاحتواء منعكسات الحرب وتحديث الرؤى والأهداف، وأنجزت وثائق مهمة منها الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي والتوجّهات الأساسية لذلك.
الشفافيةُ الغائبة
الدكتور محمد سامر مصطفى- عميد المعهد العالي للتنمية الإدارية أكد أن التنمية هي الهدف الرئيس للتخطيط الحكومي، لكننا ندرك أكثر فأكثر القيود التي تحدّ من ذلك، ومنها عدم ضمان شفافية التخطيط والميزانيات وإمكانية التنبؤ بالمساعدة التي تقدم للميزانية واحترام ذلك، وترجع أهمية التخطيط إلى تشابك العلاقات والمسؤوليات وتعدّد المتغيرات التي تجعل من التخطيط أمراً حيوياً وضرورياً، وتتركز أهميته في مواجهة الظروف المفاجئة كحل أفضل من الاعتماد على واقع الإدارة بالأزمات. ولتحقيق انعطافةٍ في التخطيط يجب عدم الاعتماد على انزياح الخطط وتعديل الأرقام، بل وضع خطط جديدة بالكامل وفق متطلبات الواقع الجديد وبيئة المؤسسات، والاعتماد على أرقام إحصائية دقيقة تلامس الواقع والأهداف واستغلال جميع المدخلات.
المعوقات
يرى الدكتور مصطفى أن ثمة معوقات أمام التخطيط منها عدم لحظ الخطوات اللازمة للوصول إلى الهدف وعدم دقة المعلومات والبيانات والتنبؤات والافتراضات وتجاهل الخطة للعامل الإنساني خاصة ما يتعلق بمقاومة العاملين للخطة، والتواكل الاجتماعي، والاعتماد على جهات مختلفة في وضع الخطط، وعدم مراعاة التغيرات في الواقع، فالتخطيط الجيد يتطلب تنفيذ الخطط بجهود الإدارة، وإشراك الجهات المعنية في التخطيط بشكل جريء وتوخي الواقعية وعدم الخوف من عرض نقاط الضعف والتركيز على نقاط القوة، وعدم ترك الخطط مركونة على الرفوف.
أهميةُ البيانات وتحليلها
يرى الأستاذ الجامعي الدكتور فادي عياش أن اعتماد التخطيط الاستراتيجي كمنهجية باعتماد الخطط الخمسية والتخطيط الصحيح يقوم على تحليل الماضي وفهم الحاضر واستيعاب الصيرورة بينهما، ليمكن التنبؤ بالمستقبل والاستعداد له من خلال رسم السياسات التي تنشأ عن الخطط وتتضمن القواعد وإجراءات الموازنة.
فعملية التخطيط لا يمكن أن تكون صحيحةً ما لم تعتمد على جمع البيانات وتحليلها ومعالجتها بطريقة علمية للحصول على المعلومات اللازمة للخطط، وهذه المعلومات يتمّ جمعها من كل الجهات العامة، وتقارن بالإحصاءات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء ومسوحات المنظمات.
تعترض ذلك معوقات تتعلق بمدى توافر المسوحات وإمكانية الوصول إليها، وعلى الأغلب لا تتوافر إحصائيات حديثة تواكب سرعة المتغيرات في بيئة العمل محلياً وخارجياً، كذلك وجود تباين بين مصادر المعلومات المحلية والخارجية ما يؤثر كثيراً في مدخلات عملية التخطيط ، لذلك نجد تباينات مؤثرة بين الخطط الموضوعة المتمثلة بالموازنات التقديرية والتنفيذ واقعياً، فتضاف بنود إلى الموازنات غير مخصصة لها لتغطية النفقات الجارية والاستثمارية في محاولة لتجاوز محدودية التمويل وعجز الموازنات.
وللأسف، بقاء التخطيط على الورق يعود إلى الارتباك في التنفيذ، وعدم إجراء التعديلات اللازمة في الوقت المناسب، وضعف فاعلية أداء العاملين وإمكاناتهم، والبعد عن الأهداف الذكية في المدى القصير والبعيد بسبب متغيّرات معطيات البيئة المحيطة.
الخبرةُ في التنبّؤ
ترى المهندسة نبيلة نبعة- مديرة التخطيط في وزارة النقل أن التخطيط هو عملية الرسم الإداري والفني والمالي للمستقبل باستخدام أدوات التخطيط اللازمة لمواجهة التغيّرات التي تحدث فجأةً، وهو الخبرة في التوقع والتنبؤ، فيمكن توقع المشكلات والأمور الطارئة التي ستحدث، ووضع الحلول لتلافيها قبل وقوعها، ومعرفة طريقة علاجها والتعامل معها.
والعمل على توضيح الأسباب المباشرة، القريبة والبعيدة المدى للتخطيط من خلال توجيه الأنشطة والأعمال نحو تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، واستغلال الموارد والإمكانات الموجودة بأقصى حدّ، ما يقلل التكاليف إلى أقل معدل داخل بيئة العمل، على أن يكون الهدف النهائي من الخطة واضحاً وفق استراتيجية الدولة، وأن تتصف الخطة بالواقعية وإمكانية التنفيذ، أي إمكانية التغيير فيها عند أي جديدٍ غير متوقع قد يحدث، والعمل على إيجاد الخطط البديلة في حال الحاجة إليها.
معوقات التخطيط
هذه المعوقات، حسب نبعة، تنتج من عدم التزام القائمين على تنفيذ الآلية التخطيطية وتفعيل الدور بالتخطيط من خلال استغلال الموارد لتحقيق الأهداف البعيدة، يضاف إليه عدم الاعتماد على الخبرة التخطيطية، إذ يتمّ الاعتماد على حَمَلة الشهادات الذين يفتقدون الخبرة التخطيطية، ويتمّ تجاهل الخبرات المتراكمة في هذا المجال، وكذلك عدم العمل على مواءمة التغيير من خلال برامج عمليةٍ وفنية وتخطيطية، إضافة إلى وجود أشخاص يقاومون التغيير، ولا يفضّلونه.
وفي ظرفنا الاستثنائي حالياً نحتاج ترشيد الإنفاق على نحوٍ يكون الإنفاق العام الاستثماري وفق الأولويات، وتشجيع التشاركية بين القطاعين العام والخاص، وإعادة استراتيجية الدعم حيث يوجه الدعم إلى مستحقيه، وليس إلى السلع، إضافة إلى ضبط حاجات كل مؤسسات القطاع العام من القطع الأجنبي من خلال موازنة خاصة مرتبطة بالموارد المتاحة من القطع الأجنبي، إذ تقتصر على تمويل المستوردات الضرورية.
قسوةُ الواقع وضرورةُ التغيير
متابعة الآراء والتواصل مع المؤسسات والاطلاع على الواقع وجمود الإجراءات كلها تكشف كم لدينا من تقصيرٍ وغياب للمنهجية في أهمّ مفاصل العمل التي تؤشر إلى نجاح أو تخلّف المؤسسات، فليس مهمّاً إحداث دوائر تخطيط عشوائياً مع غياب دراسة الحاجات فعلياً .. كثر الموظفون وضعف الأداء، وتعددت الدوائر في ظل غياب التقييم! فلا أثر لمديريات دعم القرار، ولا أثر لتقييم المشروعات وجدواها، ولا أثر لإحداث مشروعات تستوعب استثمار الموارد فعلياً، وترفع وتيرة الصناعة والإنتاج.
ميزانيات تُصرف، ومناقلات تتمّ، تأكل الرقم الكبير من الميزانية لمشروعات استثمارية لم تنفذ كما ينبغي، ليست الأزمة فقط هي المسؤولة، بل ضعف الأداء، هل تحتاجون أمثلةً؟! نستطيع ذكر الكثير، مثلاً بناء للكهرباء في أهمّ مركز تجاري في دمشق تم إشغاله لبحوث الكهرباء التي لم يُنجز منها شيء، وكنت أتجول في طوابقه فأجد قليلاً من الموظفين، وأسطول سيارات على الباب.. هذا هو الواقع، إننا لا نحتاج إلى إعمار أبنية تشغل بلا ناتج فعلي ولا قيمة مضافة، ولا مشروعات توضع لها ميزانيات عالية تتم مناقلتها بسهولة إلى بنود خدمية، ولا أحد يسأل أين المشروع المخطط؟! ولماذا تم وضعه أصلاً مادام يتم الاستغناء عنه بكل سهولة؟!
واقعُ التخطيط جرحٌ نازف في خاصرة اقتصادنا وواقع خدماتنا، ولعل غياب الأرقام والمعلومات الدقيقة وغياب تطوير أداء المكتب المركزي للإحصاء وطرق وضع المعلومات والأرقام وتوظيفها كلها سببٌ رئيس في الخلل الذي يترافق مع ضعف أداء مؤسسات المتابعة وكذلك التقييم الغائب.
نحتاج إلى اختلاف الرؤية، وإعادة هيكَلة المؤسسات من حيث طريقة عملها ورفع إنتاجيتها، فالتخطيط الجيد يعني رؤية تعتمد على الأرقام والمعلومة والمتابعة و ضرورة غياب الارتجال القائم في فرض المشروعات، مع حضور الاختصاص والخبرة اللازمين
المصدر : تشرين