سنسيريا كتبه معد عيسى
لم أستطع غض البصر عن ذلك الرجل المسن وهو يجلس بجانب الصراف يعد راتبه. وكلما عدّ مجموعة أوراق نقدية يطويها ويضعها جانبا، وعندما ينتهي يضع رأسه بين كفيه. ثم يعود لتجميع الأوراق وإعادة توزيعها.
سألته في تطفل أو فضول لم أعهده، هل تريد مساعدة؟ .. رد بعد تنهيدة طويلة. قائلا: “إذا الرب بدو يساعد بياخد الواحد بعد التقاعد”!
تتنوع الآمال والأحلام عند الأشخاص، وتتخذ لدى البعض حالات تطرف. ولكن أن تصل ببعض الأشخاص إلى الأمل بالرحيل فهذا أبعد من تطرف ويعبر عن صرخة ألم ويجسد حالة بؤس حقيقية.
نهاية للموظف
عندما يكون التقاعد من الوظيفة العامة نهاية للموظف وليس بداية لمرحلة جديدة. فقد يتحول المتقاعد الى شخص ناقم يعاني من اضطرابات نفسية وصحية تقوده إلى حلم الرحيل.
التقاعد من أخطر الحالات، وأكثر الحالات حساسية ويجب التعامل معها باهتمام ولاسيما في الأزمات. فالتقاعد فيه خسارة كبيرة للخبرات والمهارات التي يصعب تأمين البديل لها ولاسيما ببعض القطاعات النوعية والتقنية. فمن السهل أن يأتي شخص يحمل الشهادة الثانوية ليقوم بالتدريس وقد ينجح. ومن السهل أيضا أن يأتي شخص متحدث ونبيه وخلوق ليفصل بين الناس بالقضايا الخلافية بالعدل. ولكن من الصعب أن يأتي شخص لإصلاح وتشغيل التجهيزات النوعية في بعض القطاعات ولو كان يملك أعلى الشهادات ولكن ليس لديه الخبرة.
ولذلك التعاطي مع العاملين في الجهات العامة بنفس المعايير بالتقاعد دون تمييز أو إعطاء خصوصية للقطاعات النوعية، سيقود إلى فراغ جهاتنا العامة من الكفاءات والخبرات والمهارات. هذا بالنسبة لأهمية المتقاعد للجهات العامة.
عناية واهتمام
أما بالنسبة للمتقاعد نفسه فهو أكثر الأشخاص حساسية ويحتاج إلى عناية واهتمام. لأنه من جانب شعر بعدم الحاجة إليه والاستغناء عنه بعد عمر أمضاه في العمل والعطاء. ومن جانب آخر عليه أن يبدأ مرحلة جديدة من العمر بكل ما لديه من أعباء وأمراض وواجبات لم تنته بتقاعده.
تحركت كثير من الجمعيات والنوادي والجهات الرسمية والخاصة للاهتمام بكافة الشرائح العمرية لتخفف عنها آثار الحرب وتقدم لها الدعم المادي والنفسي. ولكن دون أن يكون لشريحة المتقاعدين أي خصوصية أو اهتمام.
شريحة المتقاعدين هي الشريحة الأكثر هشاشة في المجتمع صحيا ونفسيا. وهي أكثر شريحة بحاجة إلى دعم مادي ومعنوي، تقديرا لما قدمته ولمكانتها الاجتماعية. فليس هناك أصعب من كسرة الرجل و دموعه.
في التعاطي مع ملف التمديد هناك الكثير من السلبيات والظلم والخطأ بحق قطاعنا العام الذي تسربت كل خبراته وكوادره. ولا يُعقل أن نتمسك براغب ترك عمله كارها وأمامه من الفرص الكثير. وندفع بخبرات ومهارات منتمية ومتمسكة وقادرة على التقاعد وترك عملها رغم طلبها للتمديد.
المتقاعد شخص قدم الكثير لبلده وعائلته. ولذلك يجب أن نهتم به وألا يشعر بأن دوره قد انتهى وعليه أن ينتظر القدر لينقله إلى عالم آخر لا تقاعد فيه.