عقلنة الدعم بين المستحق وتخفيف العبء.. خبراء: غير ناجحة.. والاقتصاد الكمي “كلام فاضي”
سينسيريا ـ وسيم وليد إبراهيم:
أطلقت الحكومة مشروعها المسمى “عقلنة” الدعم والذي مضى عليه نحو عام ونيف، ووجه لهذا المشروع العديد من الانتقادات حول آلية تطبيقه فهناك من رأى أن عقلنة الدعم اقتصرت على تخفيف الحمل والعبء عن الموازنة العامة وتحصيل إيرادات أكثر للخزينة على حساب حاجات المواطن وهناك من قال بأن عقلنة الدعم هي إيصال الدعم لمستحقيه وبين هذا وذاك فإن المواطن في حقيقة الأمر لم يلمس نتائج مثمرة وإيجابية من هذا المشروع لغاية الآن فالأسعار ترتفع يوما بعد يوم والحكومة تخفض دعمها للمواد الأساسية مثل المشتقات النفطية والمواد الغذائية الأخرى، ولم يقابل هذا التخفيض زيادة مرجوة توازنه من حيث الدخل أو تعويض يسد الفجوة بين الأسعار والدخول..وللوقوف على مدى صوابية عقلنة الدعم وخاصة أن احتلت مساحة لا بأس بها في نقاشات الموازنة العامة للعام 2016 سواء من حيث مبالغ الدعم الاجتماعي ومبالغ فارق الأسعار ودعم المشتقات النفطية، كان لنا لقاء مع خبراء اقتصاديين الذي أدلوا برأيهم حيال هذه القضية.
هدفان لعقلنة الدعم
الأكاديمي والأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور غسان إبراهيم لفت إلى أن عقلنة الدعم من الأفضل أن يعمل على تحقيق هدفين وهما إيصال الدعم لمستحقيه وتخفيف العبء عن الخزينة العامة، وأن لا أن يكون تحقيق أي هدف على حساب هدف أخر، مشيرا إلى أن تحقيق الهدفان معا أمر صعب وهو كحال الركود التضخمي، وعلى حد قوله، أن الموازنة العامة هي أداة ووسيلة وليست غاية، فإذا توازنت الموازنة دون عجز أو استدانة وهناك فقراء في ازدياد فما الهدف من الموازنة المتعادلة؟ فالموازنة هي وسيلة وأداة لحل أزمات المعيشة كلها، فالهدف الأكبر منها هو تحسين مستوى المعيشة أو إيصال الدعم لمستحقيه لا أن تكون الموازنة بحد ذاتها هدف، فلنفترض أنه تم تحقيق موازنة في الموازنة العامة “النفقات أصبحت توازي الإيرادات” أو أن هناك فائض في الموازنة، ولكن بنفس الوقت الفقراء يزدادون والعاطلين عن العمل يزدادون، فما هي الفائدة إن كان هناك فائض في الموازنة؟.
عقلنة غير ناجحة وغير واقعية
وما يقال بأن الخزينة ملئت من جيوب الفقراء هو قول شائع، فموارد الخزينة العامة هي أكثر من الضرائب بكثير، فالضريبة هي مورد أساسي للدولة في أي مكان ولكن ليست الوحيدة فهي ذات إيرادات متعددة سواء من أرباح منشأتها الخدمية والصناعية والزراعية والتجارية والمالية، فالمثل القائل بأن مالية الحكومة جيوب رعاياها، كلمة حق يراد بها باطل، فهي تعني أنه ليس هناك إيراد للحكومة إلا من الضريبة في حين أن هناك الكثير من الموارد الأخرى للخزينة العامة غير الضريبة.
ونوه إلى أن عقلنة الدعم والتي تعني توجيه الدعم إلى مستحقيه لم يلمسه المواطن بعد، وأصبح قول شائع ولكن هناك طرق متبعة في دول العالم أكثر جدوى متوجهة للفئات بشكل دقيق لإيصال الدعم إلى مستحقيه، أما في هذه الطريقة المتبعة حاليا والتي تشمل كل شيء دون دراسة فهي ليست ناجحة، مثلا: طالب الجامعة في أوروبا ما إن يتم تسجيله في الجامعة حتى تطلب الجامعة منه أن يصدر بطاقة خاصة به للنقل والمواصلات، وأن يصدر بطاقة خاصة بالمكتبات وأخرى بالطعام وأخرى من أجل التأمين الصحي، فيصل الدعم إلى مستحقه بنسبة 100%، أما لدينا في سورية فإن المشتقات النفطية والخبز والسكر وغيرها من المواد المدعومة تصل إلى المستحق وغير المستحق لذا فالواقع حاليا عن عقلنة الدعم وإيصال الدعم لمستحقيه فهو قول يقال وغير دقيق وواقعي في سورية.
وعن التعويضات التي يجب على الحكومة أن تقوم بتوجيهيها مقابل رفع الأسعار أشار الدكتور إبراهيم، إلى أنه دائما عندما يتم رفع أسعار السلع الاحتكارية والتي تختص بتأمينها الحكومة وتحدد سعرها فقط، يفترض أن تتوجه إلى الرواتب والأجور بحيث ترفعها، ولكن الأفضل أن يتم زيادة الإنتاج وأن يتم تعبئة السوق بالبضائع، ولكن في حال تعذر ذلك فيجب أن تتوجه إلى الرواتب والأجور وإلا تداعيات كثيرة ستحدث اقتصادية واجتماعية.
لماذا لا تتم زيادة كتلة الرواتب والأجور؟
تؤكد المعطيات إلى أن الأسعار بالمتوسط ارتفعت 65% حسب إحصائيات الحكومة، وهناك أسعار سلع ارتفعت نحو 500% ولكن المتوسط يخفي ارتفاعا كبيرا جدا ببعض الأسعار، لذا نقول بأن المتوسط هو 65% وهناك سلع ارتفعت عشرة أضعاف وسبعة أضعاف، فلماذا لا تتم زيادة كتلة الرواتب والأجور، فالحديث عن أنه في حال زيادة الرواتب والأجور سترتفع الأسعار ويرتفع التضخم هو حديث غير دقيق، فمن أين هذا التضخم الحالي في ظل عدم زيادة الرواتب والأجور ؟ وتساءل إبراهيم هل يمكن معرفة ما هو مصدر التضخم؟.
ولفت إلى أنه عندما نصل إلى مسألة تحصيل إيرادات للخزينة فإن الحكومة تفكر منذ زمن بالتحصيل من غير الأغنياء، فلماذا لا تذهب إلى التجار والصناعيين وأرباب العمل والمقتدرين وتأخذ منهم الضرائب، ولماذا تبحث في الحصول على إيرادات ضريبية من خلال جيوب الفقراء أو خفض الدعم، ولماذا لا تذهب إلى أصحاب الملائة الاقتصادية وهناك تجارة ومحامين وأساتذة جامعات، أي أن هناك مصادر أخرى تستطيع من خلالها تحصيل إيرادات جديدة للخزينة أفضل من أن تقوم برفع أسعار سلع تمس ذوي الدخل المحدود.
ولفت إلى أن هناك تحسن جزئي بتوزيع المازوت والمشتقات النفطية “ولا أعلم إن حقق الرضا لدى الناس في عقلنة توزيع المشتقات النفطية، فهناك مناطق باردة تحتاج إلى كميات اكبر من غيرها، أما بالنسبة للرواتب والأجور فيجب تعديلها قولا واحدا وحلها وسريعا، واليوم أفضل من غد لان ارتفاعات الأسعار هائل.
وأوصى أنه من الضروري أن ننظر في أوضاع الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود ورفع الرواتب والأجور ليس 60% فهي مستحيلة ولكن اقل منها وبشيء معقول وليس 4 أو 5 آلاف ليرة فهي لا تغطي الفجوة، فارتفاع الأسعار لا يخاف منه اقتصاديا بل نخاف من منعكساته الاقتصادية والاجتماعية.
الاقتصاد الكمي أصبح قديما..ويجب استبداله بالاقتصاد النقدي
بالمقابل أوضح الأستاذ الدكتور في كلية الاقتصاد جامعة دمشق حسين القاضي لـ”سينسيريا”، أن معظم دول العالم تخلت عن الاقتصاد الكمي والعيني واستبدلته بالاقتصاد النقدي، لافتا إلى أن هذه النظرية نشان منذ عام 1953 على يد اقتصاد أمريكي ولا يمكن أن نقول بأنها كاملة ولكن أخذت بها أمريكا ودول أوروبا وحتى الصين التي تقود العالم باقتصادها والتي تقوم على الاقتصاد النقدي، فالاقتصاد العيني وما يتلوه من مساعدات كمية وإحصاءات يعتبر “كلام فاضي” وخارج نطاق النظرية الاقتصادية المعاصرة التي يعيش عليها العالم الآن.
وأشار إلى أن عقلنة الدعم التي اتبعتها الحكومة حاليا هي لم تهدف إلا لتخفيف العبء عن الموازنة العامة وليس لإيصال الدعم لمستحقيه، فالدعم لم يصيب الفئة المطلوبة من المواطنين بشكل دقيق، والحكومة تتصرف كحكومة وليس كأداة تقدم الدعم، والدعم الناتج عن الكارثة يأخذه المتضررون من هذه الكارثة عن طريق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والحكومة الآن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة ليست مؤهلة لتقديم الدعم للمواطنين فتخفيض الدعم أو حتى إلغاءه يناسب التداعيات الاقتصادية في هذه المرحلة.
وأشار إلى أن الدعم العيني أصبح قديم وفي حال أرادات الحكومة أن تقدم الدعم فهذا حديث أخر حيث يجب أن تعرف ما هي الشريحة المستهدفة وكيف يمكن إيصاله فمثلا تقدم الدعم للمشافي الحكومية بشكل جيد يعتر دعم للمواطن.
سياسة الحكومة غير رشيدة والنظام الإداري متخلف
وعن ما قيل بأنه كان من الأجدى للحكومة أن تعمل على تحصيل الضرائب من التهرب الضريبي وتعديل عقودها بأسعار جديدة لتعزيز موارد الخزينة أفضل من توجهها لفرض ضرائب وتخفيض الدعم عن ذوي الدخل المحدود قال القاضي: “أن التأثير المباشر لإلغاء الدعم يصب في خدمة الموازنة أكثر وهذا صحيح ولكن السياسة القائمة بها الحكومة ليست رشيدة منذ عشرات السنين وهذا الأمر يحتاج إلى خطوات عديدة وفي الحقيقة الحرب التي تتعرض لها سورية والعدوان عليها جعلت من الحكومة تائهة وغير قادرة على وضع سياسات معينة فالوضع الحالي صعب ولكن في حال إعادة النظر بالإدارة الحكومية من أولها إلى أخرها فإننا سنصل إلى نتيجة أن هناك الكثير من القضايا تحتاج إلى تغيير وأن النظام الإداري الذي تعمل فيه هو نظام متخلف جدا ومن أكثر النظم الإدارية تخلفا في العالم.
إرث الموازنة!
وأشار إلى أن الموازنة لم يتم وضعها بطريقة عقلانية حيث أنها عبارة عن نقل ونسخ للموازنات القديمة فقط فالموازنة لها أهداف اقتصادية واجتماعية وهذه الأهداف لا نكاد نراها في الموازنة ولا يوجد ربط بين النفقات الحكومية والأهداف المتوقعة من إصدار الموازنة والحكومة الحالية ليست مسؤولة عن ذلك لأن ذلك أصبح إرث يتم تناقله من حكومة إلى أخرى.
وأوصى القاضي إلى أهمية إعادة النظر بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية بالكامل وإعادة النظر بأهداف الموازنة العامة مع ضرورة إلغاء هذا الإرث وأن يتم الابتعاد عن الدعم العيني والتحول إلى الدعم النقدي، وأن يتم تشكيل فريق اقتصادي يعمل في غرفة مغلقة يدرس الأمور الاقتصادية بشكل معمق مع أهمية تغيير الأنظمة الإدارية مشيرا إلى أن بنية الهيكل الإداري في الحكومة يمكن القول عنها بأنه إذا تم تسريح 70% من موظفي القطاع الحكومي فإن أداء الحكومة سيتحسن وذلك لأن الهيكل الإداري الحالي يعزز البيروقراطية.
ونوه إلى أن أنظمة الضرائب لدينا تعتبر أنظمة فاسدة فالذي يتحمل العبء الضريبي هو الموظف أكثر، مضيفا “يجب أن نهيئ أرضية العمل في سوريا بشكل معاصر فنحن لا نريد أن نعود إلى ما كنا عليه سابقا وحسب بل يجب أن نسعى بأن نكون أفضل مما سبق من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وهذا عن طريق غربلة القوانين وإعادة النظر بها”.