دراسات و ابحاث

حرب العملات… بداية ونتائج

تسعى كثير من الدول لتحفيز اقتصادها، لذا تلجأ لبعض الوسائل منها تخفيض قيمة العملة كي تمنح منتجاتها ميزة تنافسية ، ومما يعطي الأمر وصف “الحرب” هو تدافع عدد كبير من الدول لإتباع نفس السياسة في وقت واحد.
إنه تحرك ضد قوى السوق التي من المفترض أن تكون هي المحدد الرئيس للعرض والطلب، لكن بدلا من ذلك تتحرك الدول لخفض العملة لدعم الصادرات ومن ثم دعم الصناعات وتشغيل المزيد من العمال على حساب دول أخرى.
مصطلحات أساسية
وفي هذا الصدد لا بد من معرفة الفرق بين بعض المصطلحات التي قد تتداخل على البعض في ظل متابعة التطورات في أسواق العملات.
– appreciation: وهو يعني ارتفاع قيمة العملة أي زيادة سعر صرفها أمام العملات الأخرى، ومع وجود اليورو أمام الدولار عند 1.1130، وبتحركه إلى 1.1125 فهذا يعني ارتفاع سعر صرف الدولار أمام اليورو.
-depreciation: هذا المصطلح عكس السابق أى انخفاض سعر صرف العملة، فإذا تحرك اليورو أمام الدولار من 1.1130 إلى 1.11350 فهذا يعني تراجع قيمة الدولار أمام العملة الأوروبية الموحدة.
-overvaluation: هذا المصطلح يعني أن العملة تتحرك بسعر أعلى مما يجب أن تكون عليه أو مما هو سائد في السوق، وهو ما يتسبب في ظهور سوق موازي “سوداء” لتجارة العملة مثلما حدث من الجنيه المصري والبوليفار الفنزويلي.
-undervaluation: عكس المصطلح السابق ويعني أن سعر الصرف أقل مما يجب أن يكون عليه داخل السوق، ويعد اليوان الصيني بمثابة المثال الأشهر لذلك خصوصا إبان الأزمة المالية العالمية، حيث اتهمت الولايات المتحدة بكين بخفض عملتها لدعم صادراتها بإستمرار.
توسع انتشار استخدام توصيف “حرب العملات”
يعد أيلول عام 2010 هاما لوزير المالية البرازيلي “جويدو مانتيجا” على وجه الخصوص، لأنه صار نجما بمعنى الكلمة خلال تلك الفترة مع تحذيره من أن حربا دولية للعملات توشك أن تستعر.
والبرازيل تحديدا عانت خلال تلك الفترة –كما عانت غيرها من الدول الناشئة- من ارتفاع أسعار صرف عملاتها بسبب التدفق الهائل من طوفان الدولارات القادم من الولايات المتحدة في رغبة من الاستفادة من معدلات النمو الكبيرة وسرعة دوران رأس المال.

كان ذلك نتيجة منطقية مترتبة على عملية التيسير الكمي التي أطلقها البنك الاحتياطي الفيدرالي آنذاك عن طريق “بن برنانكي” ورفاقه في لجنة السوق المفتوحة لدعم اقتصاد بلاده.
وتسببت هذه التدفقات لرؤوس الأموال في وضع المصدرين في البرازيل وغيرها من الدول الناشئة في وضع تنافسي ضعيف، وهو ما أجبر حكومة الدولة اللاتينية على فرض ضرائب على رأس المال الأجنبي، ونتيجة لذلك توقف تقريبا نمو الاقتصاد منذ عام 2013 إلى أن انكمش مؤخرا في الربع الثاني هذا العام وواصلت العملة المحلية تراجعها.
ويمكن القول أنه خلال السنوات الأخيرة عانت الدول الناشئة مرتين: أولهما ارتفاع أسعار صرف عملاتها مع اطلاق التيسير الكمي الأمريكي ومنعها من تعظيم الإستفادة من الصادرات، وعكس الأمر حاليا بتراجع أسعار الصرف لعملاتها لكن ذلك لا يبدو ناجعاً مع ضعف النمو وتباطؤ الطلب العالمي.
على أن الأمر ليس جديدا بالكلية بالنسبة لتخفيض قيم العملات، فالمثال الأشهر لحرب العملات كان خلال ثلاثينيات القرن الماضي بسبب الكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة، وتخلي العديد من الدول عن معيار الذهب الذي كان يحدد قيمة العملة.
وكان الهدف تخفيض أسعار صرف تلك العملات وهو ما دعا الشركاء التجاريين لتحرك مماثل، وهو ما أثر سلباً على حركة التجارة بشكل عام وخفض معدلاتها.
كيف يمكن خفض قيمة العملة؟
يمكن ذلك بعدة طرق وآليات منها:
-التدخل المباشر: وهي طريقة تقليدية تقوم بها البنوك المركزية عن طريق بيع العملة المحلية وشراء نظيرتها الأجنبية، مما يساهم في خفض قيمة الأولى.
-توظيف معدل الفائدة: يساهم خفض معدل الفائدة في الضغط على العملة المحلية والتخلي عنها نظرا لأنها لا تشجع الإقتراض بها أو تكون بمثابة أموال رخيصة لا تعطي صاحبها ميزة.
-التيسير الكمي: هذه الأداة الشهيرة التي وظفها المركزي الأمريكي عن طريق شراء الديون والسندات السيادية وغيرها من الأصول مقابل ضخ سيولة.
-حرب التصريحات: يمكن أن تتسبب التصريحات من صناع السياسات بتفعيل أى من الأدوات السابقة بالضغط على العملة ومن ثم تخفيض قيمتها، لكن ذلك قد لا يؤتي بثماره إذا كانت العملة قوية وتعد ملاذا آمنا مثل الين على سبيل المثال، وهو ما دعا بنك اليابان لإطلاق برنامج تيسير كمي عام 2013.
من الذي بدأ حرب العملات؟

عندما ترى أكثر من عشرين دولة بينها اقتصادات كبرى قامت خلال الفترة بين كانون الثاني إلى نيسان من العام الحالي إما بخفض معدل الفائدة أو تفعيل تدابير تدعم تخفيف السياسة النقدية لاسيما المركزي الأوروبي فما يعني ذلك؟ إنها حرب عملات بلا شك.
وعلى الرغم من أن اليابان وظفّت برنامجا للتيسير الكمي قبل أمريكا، حيث أطلقه بنك اليابان في آذار عام 2001 لمحاربة انكماش الأسعار، إلا أن برنامج “التيسير الكمي” الشهير الذي أطلقه الاحتياطي الفيدرالي عام 2009 بنسخته الأولى ثم الثانية في تشرين الثاني 2010، والثالثة في أيلول 2012 يعد الأشهر والأكثر تأثيرا.
نعم الكثير من الدول اتخذت منحى مماثلا، لكن بعد أزمة مالية طاحنة كالتي انتقلت شرارتها الأولى من أمريكا إلى العالم 2007-2008 تحرك البنك الفيدرالي لدعم اقتصاد بلاده، لكن في المقابل صدر للعالم أزمته.
في ذلك الوقت عمد وزير الخزانة الأمريكي “تيموثي جايتنر” في معظم المناسبات واللقاءات إلى الضغط على الصين التي تبقى عملتها مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، واعطاء مصدريها ميزة تنافسية ومنح سوق العمل مزيدا من الوظائف على حساب الولايات المتحدة.
وبعد سنوات فاجأت الصين العالم في الحادي عشر من آب بخفض قيمة اليوان لدعم صادراتها كي توجه لها الاتهامات بإشاعة الاضطراب في الأسواق العالمية، نعم فعلت ولكن من بدأ أولا؟
قي كل الأحوال الكل يبحث عن مصالحه، بغض النظر عن التصريحات الفضفاضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فمع نهاية برنامج التيسير الكمي في تشرين الأول عام 2014 تضخمت ميزانية بأكثر من 3.5 تريليون دولار أى ما يناهز حجم اقتصاد كبير مثل ألمانيا وتضخمت أسعار الأسهم في وول ستريت مع تحقيق مستويات قياسية للمؤشرات.
هذه فاتورة ضخمة بلا شك سيدفع نتائجها العالم وليس الولايات المتحدة وحدها، فالكل مرتبط بشكل أو آخر مع الدولار الأمريكي لا سيما في سوق السندات التي تستثمر البنوك المركزية جانبا كبيرا من احتياطياتها داخله.
نتائج سلبية
– وفي النهاية لا بد من القناعة بوجود سلبيات لتخفيض العملة بغض النظر عن الإيجابيات الظاهرة للعيان، فمع دعم الصادرات يظهر داخل بنيان الاقتصاد تحرك للإستثمارات وكذلك الثروة نحو القطاعات المعتمدة على التصدير وإهمال باقي القطاعات ومن ثم خلل هيكلي داخلي.
– أيضا التضخم المستورد مع ارتفاع قيمة الواردات خصوصا في الاقتصادات المستهلكة.

– الأمر الأسوأ قد يحدث بالنسبة لخفض الإنتاجية على المدى الطويل، حيث يبقى استيراد المعدات وآلالات مكلفا للشركات المحلية، وإذا لم يتوازى مع خفض العملة اجراء اصلاحات هيكلية حقيقية ستتضرر الإنتاجية في نهاية المطاف.
– إعاقة حركة التجارة العالمية بسبب نصب كمائن “الحمائية التجارية” من قبل بعض الدول في ظل رد فعل مضاد لتخفيض شركاء تجاريين عملاتهم.
– ردع الإستثمارات الأجنبية من دخول الدولة المخفضة لعملتها لماذا؟ قد تتسبب عملية الخفض في رفع تذبذب العملة، وهذا يعني تكلفة أعلى لتحوط المؤسسات والشركات الراغبة في الإستثمار ومن ثم هروبها أو عدم قدومها أصلا.
المصدر- وكالات

اظهر المزيد